تقع جزيرة جوتلاند في قلب بحر البلطيق، وتُعد أكبر جزر السويد وأكثرها شهرة، إذ اكتسبت عبر العصور أهمية استراتيجية استثنائية بفعل موقعها الحيوي، الذي منحها دورًا محوريًا في المعادلات العسكرية والتجارية الإقليمية.
الفايكنج
وعلى مر التاريخ، تنافست قُوَى أوروبية عدة للسيطرة عليها، فكانت ساحة لصراعات ضارية بين الفايكنج، الدنماركيين، السويديين والألمان.
أساطير الاكتشاف
تحيط بجزيرة جوتلاند العديد من الروايات والأساطير الشعبية المتوارثة من العصور الإسكندنافية القديمة، حيث تُروى أسطورة مفادها أن الجزيرة كانت مسحورة، ولا تظهر للبشر إلا عند شروق الشمس. كما اعتبرها الفايكنج نقطة انطلاق رحلاتهم البحرية وغزواتهم في العصور الوسطى، لتصبح مركزًا تجاريًا ومرفأً استراتيجيًا هامًا آنذاك.
الأهمية عبر القرون
مع تطور الحروب وأدوات السيطرة، أدركت القُوَى الإقليمية والدولية أهمية جزيرة جوتلاند، لكونها تتحكم بممرات الملاحة في بحر البلطيق، وتُشكّل نقطة مراقبة متقدمة لأي تحرك بحري بين شرق وغرب أوروبا.
وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، أدّت الجزيرة دورًا فاعلًا في الدفاع والمراقبة البحرية، فيما عاد الاهتمام بها بعد نهاية الحرب الباردة، حيث أصبحت جزءًا من حسابات الدفاع السويدية والأوروبية في مواجهة النفوذ الروسي المتصاعد.
قلعة عسكرية
عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، وتصاعد القلق الأوروبي من توسع النفوذ الروسي في بحر البلطيق، أعادت السويد — التي كانت تنتهج الحياد العسكري لعقود — نشر قواتها العسكرية في جزيرة جوتلاند لأول مرة منذ سنوات.
وبعد انضمام السويد رسميًا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2024، تحولت الجزيرة إلى مركز ارتكاز عسكري رئيسي للحلف في بحر البلطيق. وتم تزويدها بأنظمة دفاع جوي، ورادارات بعيدة المدى، وقطع بحرية متطورة، إلى جانب قوات خاصة تُكلّف بمراقبة التحركات الروسية وتأمين الممرات البحرية الحيوية بين دول الحلف.
موقع استراتيجي
وتقع جزيرة جوتلاند على بُعد 193 كيلومترًا فقط من دول البلطيق الثلاث (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا)، وعلى مسافة 370 كيلومترًا من الجيب الروسي الحصين “كالينينجراد”، ما يمنحها أهمية بالغة في أي مواجهة عسكرية محتملة في المنطقة.
وفي ذلك الصدد أكد الجنرال كارل-يوهان إدستروم، رئيس هيئة أركان الدفاع السويدي، حَسَبَ “العين الإخبارية”، أن جوتلاند تلعب دورًا محوريًا في استراتيجية الناتو الجديدة، ليس فقط كمركز لوجستي، بل أيضًا كمنصة لإسقاط الجنود، والتحكم في الاتصالات البحرية والجوية فوق بحر البلطيق، وخلق منطقة حظر وصول للقوات الأجنبية.
خطط سويدية
منذ 2018، بدأت السويد تدريجيًا إعادة إحياء وجودها العسكري في الجزيرة بعد تقليصه تدريجيًا منذ نهاية الحرب الباردة. ومع تصاعد التوترات عقب العملية العسكرية الروسية الشاملة ضد أوكرانيا، تسارعت عمليات إعادة التسلح.
وتعتزم السويد رفع عدد الجنود المتمركزين في الجزيرة إلى 4500 بحلول 2027، إضافةً إلى إنشاء وحدات متخصصة في الدفاع الجوي، والهندسة العسكرية، والمدفعية، والدعم الطبي، فضلًا عن تطوير بنية تحتية حديثة قادرة على استضافة قوات الحلفاء.
قلق روسي
على الجانب الآخر، تدرك روسيا أهمية جزيرة جوتلاند الاستراتيجية، إذ أن السيطرة عليها تمنح موسكو قدرة على عزل دول البلطيق عن بقية الناتو، وتعزيز قدراتها الجوية والبحرية في المنطقة. ويرى محللون روس أن الجزيرة تمثل هدفًا محتملاً في حال اندلاع صراع مباشر مع الغرب، بل وصل الأمر إلى التلويح باستخدام أسلحة استراتيجية أو حتى نووية لمنع الناتو من الاستفادة من الجزيرة كقاعدة هجومية ضد القوات الروسية.
مفهوم الدفاع الشامل
في مواجهة هذه التهديدات، تبنّت السويد مفهوم “الدفاع الشامل” الذي يمزج بين الإمكانات العسكرية والمدنية. وينص النظام على إلزام المواطنين من سن 16 حتى 70 عامًا بالمشاركة في الدفاع الوطني عند الحاجة، مع تنظيم تدريبات مدنية دورية، وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص.
كما استثمرت الحكومة السويدية في تحديث الملاجئ النووية المنتشرة في البلاد، والتي يتجاوز عددها 64 ألف ملجأ تستوعب ما يزيد على ثلثي السكان، إلى جانب تعزيز قدرات الأمن السيبراني وخدمات الطوارئ المدنية.
عين الناتو بالبلطيق
ومع كل تلك التطورات تحولت جزيرة جوتلاند من جزيرة تحمل عبق الأساطير الإسكندنافية إلى أحد أكثر المواقع العسكرية حساسية وخطورة في أوروبا، وباتت اليوم عين الناتو في بحر البلطيق، في وقت تتسابق فيه أوروبا لتعزيز قدراتها الدفاعية تحسبًا لأي صراع محتمل مع روسيا.