أما قبل، فإن الصيام عند جميع الناس هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، ولكنه يختلف عند أهل غزة التي ليلها مضاء بنيران المحتلين، ونهارها مظلم بدخان قنابل المعتدين.
ففي غزة لا تصوم البطون والفروج فقط، تصوم الأعين، والأذان، والأرواح، والأفئدة، والأنوف، والصدور.. صومٌ يختلف تمامًا عن المألوف.
فاللهم أهله عليهم باليُمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وصحوة ضمير الحكام.
أما بعد:
كيف تتخيل الصيام في ظل الحصار والدمار؟
وقد صامت أعين الأطفال من رؤية أمهاتهم اللواتي ذهبنَ إلى دون رجعة؟
بل كيف تتوقع حال تلك الأم التي صامَ قلبُها من
وجود صغيرها الذي كان وجبة لطائرات الإرهاب الإسرائيلي؟
إنه الصوم في غزة، ليس الامتناع عن المأكل والمشرب والجماع، بل صومٌ مختلف تمامًا ذا لونٍ باهت، ووميضٍ خافت..، هل وعيتَ ماذا أقصِد؟
ربما لم تعِ، لأنك آمن في وطنِك، تنام في جوٍ مكيَّف مُلطَّف، وقد اشتريت ما يلزمك من غذاء، ووجبات وتسهر مع أصحابك وأحبابك.. تحت سقفٍ واحد تتناول ما تشاء من الحلويات والمشروبات.. لكن في غزة هناك من فقد أحبابه وأقربائه، حربٌ صيَّرت كل واحد منهم في بقعةٍ، وجعلتهم يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء.
انظر إلى تلك الأم وهي تبحث عن كسرةِ خبزٍ لأبنائها هنا، وشاهد ذلك الأب الذي يبحث عن جثة ولدهِ تحت الأنقاض هناك!
دعنا نتخيل أنا وأنت أن جميع مَن نعيش معهم الحياة الرمضانية.. من زوجة وإخوة ووالدين.. بين شهيد وجريح ومشرَّد كيف سيكون شعورنا؟ يا له من إحساسٍ موجعٍ ومقيت.
اليوم وأنا أقرأُ في أحد الصحف قصةً إنسانية،
فإذا بي أرى طفلًا يهزُّ بكَتفِ أُمه ويقول لها “ماما بدي بابا عشان يجيب لي فانوس رمضان” ولم تجد المسكينة لصغيرها سوى حُضنًا دافئًا، وضمة اشفاقٍ نبعت من قلةٍ ذي اليد، وفقد أبا الولد.
حقيقةً إن رمضان في قطاع غزة، في ظل الحرب الهوجاء الشعواء.. التي يشنها الكيان الصهيوني، جعلت الغزيين يمرون بأوضاعٍ اقتصاديةٍ مشلولةٍ إلى ما تحت الصفر بعشرات الدرجات، في ظل حصار مُطْبِق، وحال مزرية، يفرضها العدو على سكان القطاع، بوحشية أكثر مما يراها الراءون، ويسمع صداها السامعون!
فأنت ترى مشهد لنصف دقيقة لإحدى الحالات الإنسانية على شاشات الفضائيات، من أصل ما يقارب من مليون ونصف إنسان بريء؛ يعيشون أقسى ظروفٍ حياتيةٍ على الإطلاق.
وحقيقةً، فنحن لا نرى إلا ما يريد لنا المصور أن نراه، وبهذا فإننا لا نرى إلا شعرة من جمل، وذرة من جبل!
وهذا لا يعني أن هناك نقصٌ في التغطية الإعلامية، بل يدل على حجم المأساه والدمار الذي يصعب نقله، ووصفه ليس غير.!
كيف لك أن تصف دمار أكثر من 70 في المائة من المساكن؟
كيف لك أن تصوِّرَ أشلاء أكثر من 31 ألف شهيد؟
كيف لك أن تروي ألمَ وأنين أكثر من 70 ألف جريح؟
بل كيف لك أن تنقل المجاعة، ونقص الدواء والغذاء والنزوح وتفريق الأسر مع ما يصحبها من شعور في الصدور؟
ففي غزة لا يقتصر الصوم عن شهوات الفروج والبطون، فعينُ الولد صائمة من رؤية أمه التي استشهدت، وعين الأب صائمة عن رؤية زوجته وأطفاله، ومنزله الذي تحول إلى ركام في غمضة عين، وأنف الرضيع صائمٌ من شم رائحة صدر والدته، ولله ما أصعبه من فقد!
لله ما أصعبه من صومٍ أن تصوم الآذان من سماع أصوات الأهل، والألسُن من محادثة وتكليم الأحباب، ومبادلتهم الضحكات..
لله ما أوجعه من صومٍ أن تصوم القلوب من الأمان بعد أن فطَّرها الروع والخوف..
وأن تصوم الملامح من الابتسامة التي ولَّى مَن كان يرسمها إلى الأبد البعيد..!
بالأمس وأنا أشاهد على شاشة الجزيرة بعض القصص الموجعة صادفتُ أمرأة قالت إنها توقد النار على القدر الفارغ من الطعام؛ لكي يسكت أطفالها من بكاء الجوع، وتطمئن قلوبهم أن أمهم تصنع لهم طعامًا!
فتذكرتُ قصة عمر بن الخطاب، لمَّا خرج يتفقد رعيته ومرَّ بالصحراء فإذا به يرى نارًا في الصحراء فذهب إليها، ولمَّا وصل، وجد عجوزًا لها أطفال يبكون وهي جالسة توقد النار على قدر فيه ماء وحجاره فسألها: ماذا تصنعين بهذا القِدر؟ قالت أوقد فيه عليه حجار!
فسالها ولِمَ؟ فأجابتهم أعلل (أُصبِّر) به أطفالي ثم بكت وقالت له وهي لا تعرف إنه عمر الخطاب: والله إنني سأخاصم أمير المؤمنين عمر عند الله!! فخاف عمر وسألها لماذا؟
فقالت له: لأنه تولَّى شأننا ولم يدرِ بحالنا ونحن جياع!
فذهب عمر وأحضرَ لها كيسًا من الدقيق على ظهره، وقال في نفسه والله لن أذهب حتى أسمع أطفالها يضحكون من السعادة، كما سمعتهم يبكون من الجوع وذهب يراقبهم من بعيد حتى سمعهم يضحكون مع أمِّهم.
وفي عهد عمر ابن عبد العزيز روي أنهم لم يجدوا فقيرًا في أرض المسلمين؛ فأمرهم أن ينفشوا بالحبوب على قمم الجبال، حتى لا يُقال طار طيرٌ جائع فوق بلاد المسلمين.
واليوم ما يقارب من مليون ونصف إنسان يعلم حالهم الصبيان والنسوان، والحاكم والمحكوم..
ولكن للأسف لم نقف معهم تلك الوقفة المرجوة،
ونحن نشاهدهم ليل نهار منذ خمسة أشهر وهم ينامون ببطون فارغة وصدور ممتلئة بالقهر، والهم والحزن.
وخلاصة القول إنه لصومٌ، موجع أن يصوم الإنسان من كل ما هو حلال، وأن يحرم من كل حقوقه وسعادته النفسية والروحية!
بل جُرمٌ أن تصوم من السكن في منزلك، ورؤية أهلك ومصافحة أصحابك.. وتنام شريدًا طريدًا
جائعًا تتجرع ويلات حرب همجية، يمارس فيها العدو “سياسة الأرض المحروقة” وسط صمت مُخزٍ للمجتمع الدولي الذي ينظر إلى الإرهاب الإسرائيلي على أنه أمرٌ عادي ليس إلا!
وأتمنى من العرب والمسلمين كافة أن ينظروا بعين رحيمة إلى أولئك الذين يصومون منذ خمسة أشهر بل ويصومون رمضان صومًا عطوفًا بمِعدٍ فارغة من الطعام!
فوالله إنه لمن العيب أن ينام أهل غزة ببطونٍ فارغة من الطعام، في الوقت الذي نرمي فيه مئات الأطنان من الأكل الزائد عن حاجتنا إلى براميل القمامة!