بعد عقود من التزام الحياد العسكري والسعي للعيش في أجواء من السلام والاستقرار، بدأت دول الشمال الأوروبي بإعادة تشكيل استراتيجيتها الدفاعية، متخلية عن عقيدتها السابقة، في خطوة غير مسبوقة يقودها القلق من تصاعد التهديد الروسي وتراجع الثقة في الضمانات الأمنية الأمريكية، خاصة في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
الدول الإسكندنافية
برزت الدول الإسكندنافية – السويد، النرويج، فنلندا، الدنمارك، وآيسلندا – كنموذج ناشئ للدفاع الأوروبي، حيث تبنّت نهجًا موحدًا في بناء بنية أمنية إقليمية قوية ومستقلة عن الهيمنة الأمريكية. وتمثل هذه الدول اليوم من بين أكبر المانحين الأوروبيين لأوكرانيا مقارنة بعدد سكانها.
ورغم أن كل دولة بمفردها قد تجد صعوبة في مواجهة روسيا عسكريًا، فإن توحيد قدراتها يُحدث فرقًا كبيرًا. فمجتمعةً، تملك هذه الدول اقتصادًا يضاهي اقتصاد المكسيك، ويكاد يعادل الاقتصاد الروسي. ومع انضمام السويد وفنلندا مؤخرًا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بدأت الدولتان في توحيد قواتهما مع بقية دول الشمال.
تحولات استراتيجية وجيوش قوية
السويد، رائدة في الصناعات الدفاعية، تصنع غواصات، دبابات متطورة مثل “Stridsvagn 122″، ومقاتلات نفاثة أسرع من الصوت كـ”JAS 39 Gripen”.
فنلندا: تمتلك أحد أكبر الجيوش في أوروبا نسبة إلى عدد السكان، قادرة على تعبئة 280 ألف جندي خلال أسابيع، ويبلغ عدد جنود الاحتياط حوالي 900 ألف.
النرويج: تميزت بقدراتها في المراقبة البحرية والعمليات القتالية في بيئات القطب الشمالي.
الدنمارك: تستعيد زخمها الدفاعي، وتخطط لزيادة إنفاقها العسكري بنسبة 70% خلال عامين، مع استعدادها لاستضافة أسلحة نووية لأول مرة في تاريخها.
آيسلندا: الدولة الوحيدة في التحالف التي لا تمتلك جيشًا نظاميًا أو صناعة دفاعية.
وفي إطار التعاون العسكري، قامت دول الشمال الأوروبي بتوحيد قواتها الجوية عام 2023، وأطلقت قيادة جوية موحدة، كما تبنّت في 2024 رؤية للدفاع المشترك تمتد حتى عام 2030 تحت مظلة “نورديفكو”.
تراجع ثقة الناتو
يتشارك قادة هذه الدول رؤية استراتيجية تعتبر روسيا تهديدًا جادًا في الأفق القريب. ووفقًا لتقارير استخباراتية دنماركية، قد تُقدم موسكو على شن حرب كبرى ضد دولة أو أكثر من دول الناتو خلال ثلاث إلى خمس سنوات، وهي تقديرات تتطابق مع رؤية دول البلطيق، لكنها تختلف عن نظرة العواصم الغربية الأخرى.
وفي سياق التحولات السياسية، قال ينس ستولتنبرغ، الأمين العام السابق لحلف الناتو ووزير المالية الحالي في النرويج، إن “دول الشمال الأوروبي تطبق سياسة أمنية موحدة للمرة الأولى منذ اتحاد كالمار في القرن الخامس عشر”، في إشارة إلى مستوى التنسيق غير المسبوق بين هذه الدول.
نموذج مرن واستثنائي
ومع تصاعد المخاوف من تراجع التزام الناتو، وخصوصًا في ظل رئاسة ترامب، ينظر محللون إلى تحالف الشمال الأوروبي كـ”بوليصة تأمين” استراتيجية لأوروبا، في حال تفكك النظام الأمني الغربي التقليدي.
في هذا الإطار، تسير النرويج نحو مضاعفة دعمها العسكري لأوكرانيا ليصل إلى أكثر من 8 مليارات دولار في 2025، بينما طرحت الدنمارك “النموذج الدنماركي”، الذي يدعم الإنتاج العسكري الأوكراني مباشرة من خلال عقود تمويل حكومي.
وقد تختلف المسارات المستقبلية لدول الشمال، فبينما تؤيد السويد والدنمارك نشر قوات حفظ سلام في حال توقيع وقف إطلاق النار في أوكرانيا، تتحفظ فنلندا على هذه الخطوة.
ورغم الاختلافات، فإن ما يجمع هذه الدول اليوم هو وعيها المتزايد بضرورة تعزيز التعاون الدفاعي الذاتي، في عالم تتزايد فيه التهديدات وتقل فيه الضمانات.