في صفحة مشرفة من تاريخ مصر العامر بالكثير والكثير من الأبطال في مثل هذا اليوم عام 1882 تقدم رئيس وزراء مصر محمود سامي البارودي باستقالته احتجاجا على قبول الخديوي توفيق مطالب إنجلترا وفرنسا بإبعاد أحمد عرابي عن مصر، في تصرف مثل أولى لبنات الثورة العرابية ضد الظلم والفساد
مؤامرات أجنبية
بدأت القصة في صبيحة يومٍ ثقيل من أيام شهر مايو عام 1882، حيث كانت القاهرة تغلي تحت وطأة المؤامرات الأجنبية والصراع المحتدم بين إرادة شعبٍ يتوق للتحرر، وخديوي ضعيف الإرادة مستسلمٍ لضغوط القُوَى الأجنبية.
الديون الأجنبية
كانت مصر آنذاك تعيش واحدةً من أخطر لحظات تاريخها الحديث. البلاد تنوء تحت عبء الديون الأجنبية، واحتلالٍ مالي بريطاني فرنسي غير معلن، يتدخل في شؤون الحكم، ويحدد مصير وطنٍ بأكمله من عواصم أوروبا البعيدة.
محمود سامي البارودي
في قلب هذا المشهد، وقف محمود سامي البارودي — شاعر السيف والقلم، رئيس وزراء مصر الوطني — شامخًا، يحمل بين ضلوعه قلبًا نابضًا بحب مصر، وضميرًا يأبى أن يبيع إرادة أمته.
أحمد عرابي
كان البارودي في تلك الأيام يقف جنبًا إلى جنب مع زعيم الحركة الوطنية أحمد عرابي، الضابط الذي انتفض بالجيش والشعب مطالبًا بالحرية، وبتحجيم سطوة القصر والحماية الأجنبية.
إنجلترا وفرنسا
لكن القُوَى الأجنبية لم تهدأ. أرسلت إنجلترا وفرنسا في 25 مايو 1882 مذكرة مشتركة إلى الخديوي توفيق، تطالب بإبعاد أحمد عرابي عن مصر، ونفيه خارج البلاد، باعتباره خطراً يهدد المصالح الأجنبية و”استقرار العرش”. مذكرة تملي على مصر من الخارج من يحكمها ومن يُنفى من أبنائها.
وأد أحلام المصريين
كان البارودي يعلم أن قبول تلك المذكرة يعني خيانة الثورة، ووأد أحلام المصريين في مهدها.
قصر عابدين
اجتمع الوزراء في قصر عابدين، وكانت العيون واجفة، والقلوب بين الحناجر. قرأ الخديوي المذكرة بصوت مرتعش، وأبدى استعداده لقبولها. هنا، وقف محمود سامي البارودي، شامخًا، وقال بصوتٍ جهوري:
شاهد زور على بيع مصر
“إنني لا أقبل أن أكون شاهد زور على بيع مصر، ولا أوقع على قرار إبعاد رجلٍ ثار من أجل وطنه. إن كان الخديوي قد اختار طريقه، فليعلم أن البارودي لا يُملى عليه.”
استقالة البارودي
وأمام إصرار الخديوي على الرضوخ للمذكرة الأجنبية، وضع محمود سامي البارودي استقالته على طاولة القصر، وخرج مرفوع الرأس، يجر وراءه ظلال وطنٍ جريح، يوشك أن يسقط في قبضة الاحتلال.
الثورة الوطنية
غادر البارودي منصبه، وبدأت الثورة الوطنية تدخل مرحلةً أشد خطورة، بعد أن فقدت أحد أعمدتها.
مذبحة الإسكندرية
وفي أعقاب ذلك، تصاعدت التدخلات الأجنبية، ووقعت مذبحة الإسكندرية في يوليو من العام ذاته، ثم معركة التل الكبير في سبتمبر، التي انتهت بهزيمة عرابي، وبدء الاحتلال البريطاني لمصر، الذي دام أكثر من سبعين عامًا.
نفي البارودي
أما محمود سامي البارودي، فقد ظل رمزًا للكرامة الوطنية، حتى نُفي إلى سرنديب (سريلانكا)، حيث كتب أروع قصائده عن الغربة وحب الوطن، وظل اسمه خالدًا في سجل الأحرار.
رحيل حزين
وبعد سنين من المنفى بعيد عن مصر وفي يوم 12 ديسمبر من عام 1904، رحل عن عالمنا الشاعر المصري محمود سامى البارودي، أبرز المجددين في الشعر العربي والرجل الوطني الذي دفع الثمن غاليا، فقد رحل أحباؤه وضعفت صحته من جرّاءِ المعاناة والنفي.
ميناء كولومبو
وفي ذلك الصدد يقول الكاتب سعيد الشحات عبر “ذات يوم”: أقلعت السفينة من ميناء كولومبو بـ «سريلانكا» في أول سبتمبر سنة 1899، وعلى متنها الشاعر محمود سامى البارودي، عائدا إلى مصر بعد 17 عاما في المنفى 17، مرت ثقيلة عليه وعلى كل زعماء الثورة العرابية المنفيين بعد هزيمة «جيش عرابي» في التل الكبير يوم 13 سبتمبر عام 1882 وهم: أحمد عرابي وطلبة عصمت وعبد العال حلمي ومحمود سامى البارودي وعلى فهمى ومحمود فهمى ويعقوب سامى (راجع مذكرات أحمد عرابي – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة).
سيصاب بالعمى
وتابع “الشحات” عندما بلغ محمود سامى البارودي الستين عاما في عام 1899 هاجمه المرض، وتقرر جمعية الأطباء في سرنديب ضرورة عودته إلى وطنه، لأنه سيصاب بالعمى إن ظل في الجزيرة وقد يدركه الموت، ووفقا للدكتور على الحديدي في كتابه «محمود سامى البارودي.. شاعر النهضة»: «يجزع صحاب البارودي وأهله بالقاهرة فيلحون عليه أن يتقدم بالتماس إلى الخديوي عباس الثاني ليسمح له بالعودة، ويلقى الشيخ محمد عبده بكل ثقله ومساعيه لينقذ صديقه وتتكلل المساعي بالنجاح».
ميناء السويس
وفي مشهد درامي صعب الوصف تصل السفينة به وأسرته التي تكونت في المنفى إلى ميناء السويس عام 1899، وحسب الحديدي: «وقف على ظهر السفينة مستقبلا مصر وهو قابض على سور السفينة والدموع تنهمر من مآقيه، ولا يجرؤ أحد أن يقترب منه، فيقطع عنه لحظة اللقاء مع وطنه الحبيب».
مفارقة الأهل والوطن
أما محمود سامى البارودي فقد حكى عن رحلته إلى المنفى قائلا: إني لما أفضتْ بي غوائل الزمن إلى مفارقة الأهل والوطن، وحقَّت كلمة الوداع وأنصت كل مجيب وداعٍ، سارت بأشياخنا الفلك بتقدير من له الملك، فلما توسطنا لجة اليم، وغشيتنا ضبابة الهم، أخذ البحر يهدر ويموج، والريح تعصف وتروج، والدجن يبرق ويرعد، والموت يقرب ويبعد، والفلك بين صعود وهبوط، والناس بين رجاء وقنوط، فشخصت الأبصار، وغابت الأنصار، وأقبل الفزع، واستولى الجزع، وشغلت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، هنالك دعا ربَّهم الغافلون، وكفته أذيالهم الرافلون، فلا ترى إلا ناكس الطرف لا ينبس بحرف كأنما أظلتهم الرجفة، أو غشيتهم الوجفة، فهم لفرط الحيرة خمود تحسبهم أيقاظًا وهم رقود، فلم يزل يتخبطنا اليم، ويأخذ بأكظامنا الغم، حتى كادت الأنفس تزهق، وأظفار المنية ترهق، ونحن في وعاء لا نملك إلا الدعاء، ولبثنا على ذلك ثلاثًا لا نجد فيها حياة، وكيف لنا بالخلاص ولات حين مناص، فبعد لأي ما سكنت فورة الريح، وهدأت ثورة ابن بريح، وتجلت بنورها السماء، واصطلح الماء والهواء، فقرت الأنفس في الصدور، وتنفس كل مصدور، ولم يبق إلا سوق الحديث من قديم وحديث، والفلك يمخر البجر بجؤجؤه، ونحن في الشهر في دؤدؤه، حتى انتهى بنا الدبيب، ولاحت لأعيننا سرنديب.
شاعر السيف والقلم
أما عن رحيله فوصف الكاتب سعيد الشحات، المشهد الأخي في حياة شاعر السيف والقلم، حسبما يؤكد «الحديدى» قائلا: «اهتزت مصر من الأسى والفجيعة، وقد فقدت في البارودي ابنًا من أعز أبنائها، ورائدًا لنهضة أصيلة في الشعر، وفنانًا بعث الروح في الأدب العربي كله، ومجاهدًا ثائرًا حاول أن يخلص وطنه من ظلم الاستبداد ويمنحه الحرية والاستقلال».
توفى وعمره 65 عامًا
وجاءت الوفاة وعمره 65 عامًا «مواليد 6 أكتوبر 1839»، وبعد خمس سنوات من عودته إلى مصر، في أول سبتمبر 1899، بعد أن قضى 17 عامًا في المنفى، مرت ثقيلة عليه وعلى كل زعماء الثورة العرابية، التي انتهت بهزيمة جيش عرابي في «التل الكبير» يوم 13 سبتمبر عام 1882، وعوقبوا بالنفي إلى جزيرة سيلان، وكان هو واحدًا منهم.