شهد عام 217 قبل الميلاد واحدة من أعظم وأشرس المعارك في تاريخ الممالك الهلنستية القديمة، عُرفت باسم معركة رافيا (Raphia)، أو موقعة رفح.
وقعت هذه المواجهة الحاسمة بالقرب من مدينة رفح الحالية، على الحدود بين مصر وفلسطين، وكانت فصلًا جديدًا من الصراع طويل الأمد بين مملكة البطالمة في مصر والدولة السلوقية في الشام، على السيطرة على إقليم سورية الجوفاء، الذي شكّل نقطة التقاء حيوية بين مصر وبلاد الشام.
خلفية المعركة
منذ وفاة الإسكندر الأكبر وانقسام إمبراطوريته، تنافس خلفاؤه من البطالمة والسلوقيين على النفوذ في المنطقة؛ ومع تولي أنتيوخوس الثالث الكبير عرش الدولة السلوقية، سعى لاستعادة المناطق التي فقدتها دولته لصالح البطالمة، وعلى رأسها سورية الجوفاء.
في المقابل، كان بطليموس الرابع فيلوباتور يواجه ضغوطًا داخلية وضعفًا سياسيًا، لكنه أدرك أن الحفاظ على هذه المقاطعة يعني حماية حدود مصر الشرقية من أي تهديد سلوقي محتمل.
استعدادات الجيشين
في ربيع عام 217 ق.م، قاد بطليموس الرابع بنفسه جيشًا ضخمًا قوامه 73 ألف مقاتل من المشاة، و5 آلاف من الفرسان، و73 فيلًا أفريقيًّا.
ولأول مرة، ضم الجيش البطلمي أعدادًا كبيرة من المصريين الأصليين، بعد أن كان يعتمد تاريخيًا على الجنود المقدونيين واليونانيين فقط؛ فيما تولى تدريب هؤلاء المصريين الوزير سوسيبيوس، وأثبتوا في هذه المعركة كفاءة لافتة.
رافق بطليموس في الحملة أخته وزوجته الملكة آرسينوي الثالثة، التي كان لها دور معنوي كبير في رفع معنويات الجنود في أثناء القتال.
أما أنتيوخوس الثالث، فقد قضى الشتاء في بطاليمايس يعدّ العدة لهذه المواجهة؛ جمع جيشًا متعدد الأعراق بلغ قوامه 62 ألفًا من المشاة، و6 آلاف فارس، و102 فيل هندي، مستقدمًا جنودًا من فارس، الميديين، العرب، كريت، ليديا، تراقيا، وكارمانيا، بالإضافة إلى مرتزقة يونانيين.
أحداث ما قبل المعركة
اصطدم الجيشان عند رفح في منطقة كانت منذ قرون ميدانًا لمعظم جيوش الشرق الأدنى، منذ أيام سرجون الثاني وآسرحدون الآشوري؛ قضى الطرفان عدة أيام في مراقبة بعضهما عن مسافة خمسة أميال.
تعرض بطليموس الرابع لمحاولة اغتيال ليلية من قبل تيودوتوس الأيتولي، القائد المنشق عن بطليموس، إلا أن الطعنة أخطأته بالصدفة وأودت بحياة طبيبه أندرياس؛ لم يثنِ هذا الحادث عزيمة بطليموس الذي أدرك أن الصحراء الممتدة خلفه وافتقار جيشه للمؤن والماء يُحتمان عليه القتال.
سير المعركة
اصطف الجيشان صباح المعركة؛ وضع كلا الطرفين المشاة حملة الحراب في قلب المعركة، والمشاة الخفيفة على الأجنحة، بينما تولت الفيلة تأمين الخطوط الأمامية، والخَيَّالة على الأطراف.
قاد بطليموس الرابع الجناح الأيسر لجيشه، مواجِهًا أنتيوخوس الثالث الذي تولى بنفسه قيادة جناحه الأيمن؛ واصطفت بجوار بطليموس أخته آرسينوي الثالثة، التي جابت صفوف الجنود تحثهم على القتال.
بدأت المعركة بتفوق سلوقي واضح؛ هاجم أنطيوخوس بجناحه الأيمن بقوة هائلة، فاخترق الجناح الأيسر البطلمي، الذي كان يقوده الملك نفسه؛ فيما تراجعت فيلة بطليموس أمام فيلة أنطيوخوس الهندية، انقض أنطيوخوس بفرسانه وطارد بطليموس حتى كاد يشطر الجيش المصري.
لكن في لحظة فاصلة، تمكن بطليموس من الانفصال عن فلول جناحه الأيسر، وعاد بسرعة إلى قلب جيشه، الذي لم يكن قد خاض المعركة بعد، وهنا ظهر أثر التدريب المكثف الذي خضع له المصريون الأصليون تحت قيادة سوسيبيوس، إذ هاجموا بقوة جناح حملة الحراب المقدونيين السلوقيين وأجبروهم على التراجع.
وعندما عاد أنطيوخوس إلى ساحة القتال، فوجئ بهزيمة جيشه في القلب والجناح الأيسر.
خسائر المعركة
خسر السلوقيون 10 آلاف من المشاة، و300 فارس، وأسر منهم 4 آلاف مقاتل. في المقابل، بلغت خسائر البطالمة 1500 مقاتل و700 فارس.
نتائج المعركة
شكل هذا النصر محطة فارقة في تاريخ مصر البطلمية، إذ أجبر أنتيوخوس الثالث على التراجع إلى الشام وطلب هدنة مدتها عام، سمح خلالها بدفن قتلاه.
لكن هذا الانتصار حمل في طياته نذر اضطراب داخلي خطير؛ إذ كشف تجنيد المصريين عن قدرتهم العسكرية، ما شجعهم لاحقًا على الثورة ضد الحكم البطلمي.
عقب المعركة، قام بطليموس بجولة استعراضية في سورية وفلسطين، استمرت نحو ثلاثة أشهر، استقبلته خلالها المدن بحفاوة، مفضلين الحكم البطلمي على السلوقي.
عقب ذلك، عاد بطليموس إلى الإسكندرية، حيث استأنف حياة الترف واللهو، تاركًا إدارة الشام لحاكم يُدعى أندروماخوس.
الشرق الأدنى
تظل معركة رافيا واحدة من أهم مفاصل التاريخ الهلنستي في الشرق الأدنى، إذ أوقفت الزحف السلوقي نحو مصر وأبقت سورية الجوفاء تحت النفوذ البطلمي لعدة عقود؛ لكنها في الوقت ذاته كانت شرارة أولى لانبعاث الوعي الوطني بين المصريين الأصليين.