رغم غرابة العادات التي قد تميّز بعض الشعوب، إلا أن ما يحدث في جزيرة قبرص يثير الدهشة والتقدير في آنٍ واحد؛ فما إن تطأ قدماك أرض الجزيرة حتى تستوقفك مشاهد غير مألوفة: صور الحمير تزيّن واجهات المحال التجارية والهدايا التذكارية، في مشهد يجسّد احتفاءً فريدًا بهذا الحيوان الذي أصبح رمزًا وطنيًا و”حارسًا لذاكرة الأمة”.
رمز تاريخي حيّ
لا يُعد الحمار في قبرص مجرد وسيلة نقل تقليدية، بل يُنظر إليه بوصفه جزءًا من الهوية القومية. ينحدر الحمار القبرصي من سلالة قديمة تعود لآلاف السنين، وقد لعب دورًا محوريًا في الحياة اليومية للجزيرة، لاسيما في عام 1943، حين اعتمدت عليه القوات البريطانية كوسيلة للنقل العسكري، وبلغ عدد الحمير حينها نحو 23 ألفًا، وكان يُصدر إلى دول مثل مصر والسودان وسوريا.
انقراض يهدد الموروث
مع مرور الزمن وتقدم التكنولوجيا، تراجع اعتماد السكان على الحمير، حتى كشفت دراسة حديثة في مطلع الألفية عن تدهور خطير في أعدادها، حيث لم يتبقَ سوى 800 حمار فقط، ما دفع القبارصة إلى دق ناقوس الخطر تحسبًا لانقراض هذا الحيوان الذي يُعد جزءًا من التراث الشعبي.
شرارة الإنقاذ
في عام 2008، أثار العثور على عشرة حمير مقتولة بالرصاص موجة غضب عارمة في الشارع القبرصي، وأطلقت شرارة تحرك شعبي واسع لحماية الحمير، تمخض عنه إنشاء محميات بيئية ومزارع خاصة للحفاظ على هذا الكائن الذي أصبح يحمل دلالات تتجاوز كونه حيوانًا أليفًا.
مزرعة الحمير الذهبية
من أبرز هذه الجهود، تأسيس “مزرعة الحمير الذهبية” بالقرب من لارنكا، والتي تحولت إلى مركز بيئي وسياحي يزاوج بين الحفاظ على الحيوانات والاستثمار المستدام. وتُستخلص من لبن الحمار منتجات تجميلية وطبية أثبتت الدراسات فعاليتها في علاج أمراض مثل الصدفية، وتُستخدم أيضًا في تخفيف السعال الديكي. ويُعد لبن الحمار بديلاً صحيًا لحليب الأبقار، ويُقارب في تركيبته لبن الأم.
ترودوس
لا تزال قرى جبال ترودوس تعتمد على الحمير في بعض المهام الريفية مثل درس الحبوب وسحب المياه من الآبار باستخدام الوسائل التقليدية. ويحرص سكان هذه المناطق على رعاية الحمير وتقديرها، باعتبارها رفيقًا وفيًا في رحلتهم الطويلة مع الحياة القاسية.
وجهة سياحية فريدة
تحوّلت الحمير في قبرص إلى أيقونة سياحية، حيث يقصد الزوار المزارع والمحميات للتفاعل مع الحيوانات وشراء المنتجات المستخلصة من ألبانها. كما أصبحت تلك المزارع بمثابة جسور تربط الماضي بالحاضر، وتُقدم نموذجًا حيًّا لكيفية الحفاظ على التراث الثقافي خارج جدران المتاحف.
الحمار كنز قومي
أصبح الحمار القبرصي رمزًا للصمود والبساطة، وشاهدًا على مراحل تحوّل الجزيرة. وتمكّن بفضل جهود الأهالي والمؤسسات من مقاومة التهميش والانقراض، ليبقى شاهدًا حيًّا على التراث الذي لا يُقاس فقط بالحجارة والكتب، بل بالكائنات التي شاركت الإنسان رحلته عبر الزمان.