في قلب الإمبراطورية المغولية، التي كانت تحكم الهند بثروةٍ وجلالٍ لا مثيل له، وُلدت واحدة من أعظم قصص العشق في تاريخ البشرية. بطلها السلطان المغولي شاه جهان، وملهمتها ممتاز محل، المرأة التي لم تكن مجرّد زوجةٍ لسلطان، بل كانت رفيقة روح، ونصف قلب، وسرّ حياة.
بداية الحكاية
اسمها عند ولادتها كان أرجوماند بانو بيگم، ولدت عام 1593 لأسرة نبيلة من سلالة فارسية مهاجرة؛ التقاها الأمير خُرّم — الذي سيصبح لاحقًا شاه جهان — للمرة الأولى وهي في سن المراهقة، وفي لحظة واحدة، خطف جمالها وأنوثتها قلبه، وقرر أن تكون شريكة عمره.
تزوجها عام 1612، ولقبها بـممتاز محل، أي “جوهرة القصر”، وهو الاسم الذي ظلّ خالدًا في ذاكرة التاريخ؛ لم تكن ممتاز مجرد زوجة سلطانية في حريم القصر، بل كانت أقرب الناس إلى قلب شاه جهان، ترافقه في سفره، وتحضر مجالسه، وتشاركه مشورته في شؤون الحكم، حتى قال المؤرخون إنها كانت “نور قلبه، ومشعل فكره، وسلوى أيامه”.
الوداع الأخير
في عام 1631، وبينما كانت ممتاز محل في سن الثامنة والثلاثين، وكانت تضع مولودها الرابع عشر، أصابها نزيف حاد في أثناء الولادة، ولم تفلح جهود الأطباء في إنقاذ حياتها.
ماتت ممتاز بين ذراعي شاه جهان، الذي قيل إنه ظلّ محتضنًا جثمانها لساعات، يرفض تصديق الفاجعة.
أظلمت الدنيا في عيني السلطان، وانكسرت روحه، حتى أنه انسحب من الحكم لفترة طويلة، واعتزل الناس، وأطلق لحيته حدادًا على معشوقته.
وعد الخلود
في لحظة وداعها الأخيرة، قطع شاه جهان وعدًا أبديًا بأن يُشيّد لها ضريحًا يفوق في جماله وعظمته أي مبنى عرفته الدنيا، يحمل اسمها، ويظل شاهدًا على حبه لها إلى أبد الدهر.
بدأ العمل في بناء الضريح بعد وفاتها مباشرة؛ استغرق تشييده سبعة عشر عامًا كاملة، حيث استعان السلطان بأمهر المهندسين والحرفيين من الهند وفارس والإمبراطورية العثمانية، حتى اكتمل ذلك البناء العجيب عام 1648، ليُصبح تاج محل، أحد أعظم التحف المعمارية في التاريخ.
قصة من حجر ودموع
بُني تاج محل من الرخام الأبيض النقي، الذي تغيّر ألوانه مع تبدّل ضوء النهار، من ورديٍ عند الفجر، إلى أبيضٍ ناصعٍ في الظهيرة، ثم ذهبي عند المغيب.
زيّن المكان بأحجار كريمة استُحضرت من أصقاع الأرض: الياقوت من سيلان، الزمرد من كولومبيا، الفيروز من إيران.
في قلب الضريح يرقد جسد ممتاز محل، وفي غرفة مجاورة، جثمان شاه جهان نفسه، بعدما توفي عام 1666، ليدفن إلى جوارها، ويكتمل بذلك فصل آخر من قصة العشق الخالدة.
خلود الحكاية
لم يكن تاج محل مجرد ضريحٍ لامرأة، بل صار رمزًا أبديًا للحب الخالص، والوفاء الذي لا يموت، ولحظة استثنائية في تاريخ الإنسانية.
حيث يأتيه العشاق من كل بقاع الأرض ليشهدوا على قصة حبٍ حقيقية، جعلت من الحجارة لغةً تتكلم، ومن الرخام دموعًا مجمدة.
فيما لا يزال التاريخ يردد إلى اليوم: “في الهند، هناك قصرٌ من رخامٍ أبيض، بُني من أجل امرأةٍ ماتت، ولرجلٍ أبى أن يموت حبّه بموتها.”