تُعد ملحمة الشعب الجزائري في مقاومة الاستعمار الفرنسي واحدة من أعظم حكايات الكفاح الوطني في التاريخ الحديث، إذ واجه هذا الشعب الباسل استعمارًا دام أكثر من قرن بصلابةٍ وإصرارٍ، حتى توج نضاله بالحرية والاستقلال عام 1962، على الرغْم ما واجهه من خذلان إقليمي ودولي، وعلى رأسه الصمت المريب للدولة العثمانية التي كانت الجزائر تتبعها اسميًا حينذاك.
الجزائر تحت الحكم العثماني
في مطلع القرن التاسع عشر، كانت الجزائر ولاية تابعة للدولة العثمانية، لكنها تمتعت بحكم شبه ذاتي، يتولاه “الداي”، الذي كان يُنتخب من قِبل الإنكشارية، وتمتعت بأسطول بحري قوي هيمن على أجزاء من البحر المتوسط، مما جعل الجزائر دولة بحرية مؤثرة.
في المقابل، كانت فرنسا خارجة من اضطرابات الثورة الفرنسية وحملات نابليون، وتعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية، مما دفعها للبحث عن منفذ خارجي لتصدير أزماتها، فكانت الجزائر هدفًا مباشرًا لأطماعها الاستعمارية.
من الدبلوماسية للاحتلال
بدأت العلاقات تتدهور بين الجزائر وفرنسا على خلفية ما عُرف بـ”حادثة المروحة” عام 1827، حينما ضرب الداي حسين، حاكم الجزائر، القنصل الفرنسي “ديوفال” بمروحة يد في أثناء نقاش حاد حول ديون قديمة مستحقة على فرنسا (لقاء مساعدات جزائرية بالقمح في عهد نابليون).
فرنسا اعتبرت الحادثة إهانة قومية، وردت بفرض حصار بحري على الجزائر استمر ثلاث سنوات، هيأت خلالها الأجواء للغزو العسكري، بينما لم تحرّك الدولة العثمانية ساكنًا، وبدت منشغلة بجمع الجباية من الجزائر دون اكتراث لمصيرها.
الدولة العثمانية تواطؤ أم عجز؟
لا توجد وثائق تاريخية موثوقة تؤكد وجود مؤامرة مباشرة بين الدولة العثمانية وفرنسا لاحتلال الجزائر، لكن مواقف الدولة العثمانية السلبية واللامبالية تجاه الاحتلال تفتح الباب لتأويلات متعددة.
فلم تصدر إسطنبول بيان إدانة رسمي أو إعلان حرب ضد فرنسا، على الرغْم أن الجزائر كانت ولاية عثمانية اسميًا؛ كما لم تُرسل أي دعم عسكري أو لوجستي لصد الغزو الفرنسي، رغم أن الحملة كانت معروفة الإعداد مسبقًا.
وكذا تزامن الغزو الفرنسي مع عهد السلطان محمود الثاني، الذي كان يُجري حينها حملة تطهير للجيش الإنكشاري، وهي نفس الفئة الحاكمة في الجزائر، مما دفع بعض المؤرخين للاعتقاد بأن السلطان لم يكن منزعجًا من سقوط “دايات الجزائر”، الذين تمردوا مرارًا على أوامره.
مبررات اللاموقف العثماني
من جانب آخر، يذهب بعض الباحثين إلى أن عدم تدخل الدولة العثمانية يعود إلى، ضعف الدولة بعد حرب مدمرة مع روسيا (1828-1829)، واعتبار الجزائر مستقلة فعليًا منذ نهاية القرن السابع عشر، وكذا سعي العثمانيين لتجنب صدام مباشر مع فرنسا، التي كانت تعتبر خصمًا لروسيا – العدو التقليدي للعثمانيين، وانشغال الدولة بإصلاحات داخلية وبثورات البلقان.
فيما أشارت بعض الوثائق العثمانية لاحقًا إلى انزعاج دبلوماسي متأخر من الغزو الفرنسي، لكنها لم تُتبع عن أي إجراءات حاسمة أو مقاومة فعلية.
الغزو الفرنسي وسقوط العاصمة
في 14 يونيو 1830، أنزلت فرنسا قواتها بقيادة الجنرال “دي بورمون” في منطقة سيدي فرج، غرب العاصمة الجزائر، مدعومة بأسطول ضخم، وقوة برية تجاوزت 37 ألف جندي.
رغم مقاومة جزائرية محدودة، نتيجة ضعف الإمدادات والاضطرابات الداخلية، نجحت القوات الفرنسية في التقدم نحو العاصمة، وفي 5 يوليو 1830، سقطت مدينة الجزائر بعد توقيع الداي حسين وثيقة الاستسلام، مقابل ضمانات بحماية حياته وممتلكاته وعدم المساس بدين السكان أو حرياتهم، وهي وعود لم تلتزم بها فرنسا لاحقًا.
المقاومة الشعبية
على الرغْم من سقوط العاصمة، لم يخضع الشعب الجزائري، بل اندلعت المقاومة المسلحة في مناطق متعددة، بدأت في الغرب، حيث قاد الأمير عبد القادر مقاومة بطولية استمرت أكثر من 15 عامًا، وأسس دولة مقاومة متماسكة، أما في الشرق، قاد أحمد باي المقاومة من قسنطينة؛ ولاحقًا، اندلعت ثورات متفرقة في منطقة القبائل والصحراء.
على الرغم من شراسة المقاومة، نجحت فرنسا تدريجيًا في بسط سيطرتها الكاملة على الجزائر بحلول عام 1871، بعد قمع آخر الثورات الشعبية.
أطول استعمار بإفريقيا
استمر الاحتلال الفرنسي للجزائر 132 عامًا، وكان من بين أكثر الأنظمة الاستعمارية قمعًا ودموية في التاريخ الحديث، حيث تم مصادرة ملايين الهكتارات من الأراضي لصالح المستوطنين الأوروبيين.
مجازر سطيف وقالمة
وكذا سعت فرنسا إلى طمس الهوية الوطنية الجزائرية، من خلال محاربة اللغة العربية والدين الإسلامي، ونشر الثقافة الفرنسية؛ كما ارتكبت مجازر بشعة، أبرزها مجازر سطيف، قالمة وخراطة عام 1945، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين العزّل، بعد خروجهم في مظاهرات سلمية تطالب بالاستقلال.
ثورة التحرير الكبرى
لكن جذوة النضال لم تخمد، حتى اندلعت ثورة التحرير الوطنية في 1 نوفمبر 1954، بقيادة جبهة التحرير الوطني، التي قادت كفاحًا مسلحًا استمر ثماني سنوات.
وبعد تضحيات جسام، قدرت بأكثر من مليون ونصف مليون شهيد، وقّعت فرنسا اتفاق “إيفيان” مع قادة الثورة، لتنال الجزائر استقلالها في 5 يوليو 1962، في نفس التاريخ الذي سقطت فيه العاصمة قبل 132 عامًا.
النهاية والانبعاث
ليُعد يوم 5 يوليو يومًا خالدًا في الذاكرة الوطنية الجزائرية، حيث يمثل نهاية القهر وبداية الحرية والانبعاث الوطني، بعد قرن وثلاثة عقود من الاحتلال والدم والدموع.