في غياهب الزمن، قبل أن يُبثَّ النور في عيني آدم عليه السلام، وقبل أن تسري الأرواح في أجساد البشر، كانت الأرض مأهولة بكائنات خفية.. أقوام من نارٍ لا دخان لها، يُعرفون في بطون الأساطير والمرويات القديمة بـ “الجن القدماء”.
بداية الحكاية
تقول الروايات الشفوية، وما تناقله العارفون وأهل الأسرار، أن هؤلاء القدماء كانوا أول من عُمِّر الأرض بعد خلق الله عز وجل لها، فسكنوا الجبال، وعمّروا الصحارى، وشيدوا في الكهوف قصورًا من لهب، واتخذوا من البحار مُدُنًا زرقاء لا يصلها بشر ولا ملك.
كانوا أجيالًا من الجن تفوق في قوتها وعلمها ما عرفه البشر والجن لاحقًا. يقال إنهم كانوا يتحكمون في عناصر الطبيعة: يقلبون الرياح، ويُخرجون النار من باطن الأرض، ويسبحون في أعماق البحار، ويمتلكون أسرار المعادن، بل ويُقال إنهم كتبوا علومهم على حجارة لم يستطع أحد أن يفك رموزها إلى اليوم.
العصيان الأول
ومع مرور الزمن، طغت تلك الكائنات، وسفكت الدماء فيما بينها، حتى تحولت الأرض إلى مملكة من الفوضى والرعب. يروى أن قبائلهم الكبرى — مثل آل ماروت وبنو دمهار — كانت تخوض حروبًا من نار استمرت قرونًا.
وبحسب ما ورد في بعض المرويات، صعدت ملائكة السماء إلى رب العزة تشكو فسادهم، فجاء الأمر الإلهي الحاسم: “اهبطوا إلى الأرض، وأخرجوا منها من أفسد فيها”
فدارت معارك طاحنة بين الملائكة والجن القدماء، انتهت بهزيمتهم وفرار من تبقى منهم إلى باطن الأرض وأعماق المحيطات.
سادة الكنوز المحروسة
منذ تلك الحقبة السحيقة، تقول الحكايات إن الجن القدماء صاروا حرّاس الكنوز المدفونة، والمكلفين بحراسة الأسرار القديمة التي لا يجرؤ جنٌّ عادي على الاقتراب منها.
ويقال إن من يعثر على أثر قديم أو سرداب مظلم أو كهف منسي، فليس أمامه إلا أن يقرأ تعويذات معروفة بين أهل العِلم لتجنب بطش هؤلاء القدماء. فهم لا يُرون، ولا يُسمع لهم صوت، لكن حضورهم في المكان يُشعر به القلب قبل الحواس.
قدرات تتجاوز الخيال
قيل عنهم إنهم، يتشكلون في صورٍ بشرية وحيوانية، ويستطيعون أن يغيروا ملامحهم حتى يختفوا بين الناس.
وكذا فهم يحملون أسرار علم المعادن والطاقة، ويديرون منظومات خفية في الأرض× كما يتحدثون بلغات منقرضة لم يعد لها وجود بين البشر.
وفي بعض المعتقدات الشعبية، يُظن أن السحرة العظام لا يُمنحون القوة الكاملة إلا بعهد مع أحد ملوك الجن القدماء، وهم قلائل لا يظهرون إلا لمن ملك مفاتيح طقوس نادرة لا يعلمها إلا كبار العارفين.
حكايات العابرين
في صعيد مصر، وواحات المغرب، وصحارى الجزيرة العربية، تتداول إلى اليوم حكايات عن مسافرين التقطوا حجارة تحمل نقوشًا نارية، أو عن صيادين فقدوا أثرهم في وادٍ مهجور ليُقال بعدها إنهم وقعوا في أسر قبيلة من “القدماء”.
وفي واحدة من أشهر الحكايات، يُقال إن فلاحًا بسيطًا عثر في باطن أرضه على بئرٍ من نارٍ زرقاء، فانطلقت أصوات تقول: “اغلق البئر يا بن آدم، فما لك والقدماء؟ !”.
موقف العقيدة الإسلامية
على الرغْم من سحر هذه الحكايات، إلا أن العقيدة الإسلامية تؤمن بوجود الجن كجنس مخلوق من نار، لهم عوالمهم وقدراتهم، لكن دون تصنيفهم إلى “قدماء” و”حديثين”.
فالإيمان بوجود سلالات قديمة خارقة، كما في القصص الشعبية، لا يستند إلى دليل شرعي ثابت.
إنما جاءت المرويات لِتُحذر من عالم الجن عموماً، ومن تجاوز حدود الإنسان في التعامل مع المجهول.
النهاية
وهكذا، تبقى قصة “الجن القدماء” من أكثر الحكايات إثارة في التراث الشعبي، مزيجًا من الخوف والدهشة، وشاهدًا على خيال الأجداد الذين كانوا يبحثون دومًا عن تفسير للأسرار المدفونة في باطن الأرض.
فهل هم حقًا موجودون؟ أم أنهم مجرد ظلٍ من ظلال الحكاية؟ ؛ السؤال يبقى معلقًا.. حيث لا جواب إلا عند من بيده مفاتيح الغيب.